من بين عشرات الأفلام الروائية القصيرة، ثمة ما يستوقفك ويستحق إلقاء الضوء عليه وعلى صناعه من المبدعين الجدد، القادمين بحماس ورؤى طازجة، تنبئ عن مواهب ملفتة بإمكانها أن تدهشك وتمتعك بصريا وفكريا، وبإمكانها ان واصلت هذا النهج أن تمثل إضافة حقيقية إلى مسيرة الفن السابع.
وفي تصوري أن الأفلام الروائية القصيرة، التي شاركت في المهرجان القومي للسينما المصرية مؤخرا أفضل بكثير في معظمها من نظيرتها الطويلة، رغم الميزانيات الضخمة التى تتوافر لها، ووجود خبرات سينمائية- للأسف- لا توظف، لأن الهم الأكبر للمحترفين هو شباك التذاكر، وقانون السوق، لا القيمة الفنية.
وإذا ما قارنا بين القالبين نجد الكفة تميل للأفلام القصيرة، خاصة على مستوى الأفكار والمعالجات غير النمطية في جانب كبير منها، فضلا عن الجرأة، والتماهي مع هموم مجتمعية، وأحيانا قضايا إنسانية عميقة، ذات أبعاد فلسفية أو سيكلوجية.
ولذا علينا أن نحتفي ب"سينما الظل"، وصناعها من الشباب المبشرين، ومن هؤلاء مروة زين مخرجة فيلم "لعبة" المقتبس عن قصة للأديب الإيطالي البرتو مورافيا، والذي يبدو ملفتا ببساطة معالجته، وعمقها في ذات الوقت، إلى جانب الحساسية النسوية في التعاطي مع حدث يبدو عاديا ومتكررا كل يوم في حياتنا اليومية، لكننا لا نتوقف عنده، من قبيل فجوة التواصل بين الأباء والأبناء، والنظرة السلبية من جانب الجيل الأكبر للأصغر، والإستهانة بذكائه وخبرته، واعتبار أنه أقل استيعابا لما يدور حولنا.
غير أن الحقيقة ليست كذلك، فالطفلة الصغيرة في الفيلم كانت مدركة لكل التفاصيل، بل أنها اخذت زمام المبادرة لتلطيف الاجواء المتوترة بينها وبين أمها العصبية، جراء مرورها بأزمة عاطفية بعد طلاقها، اذ تعرض الصغيرة على الأم ممارسة لعبة تبادل الأدوار، وتحاول إتقان تقليد الأم في كل تصرفاتها لتعلمها بشكل غير مباشر أنها تعي كل صغيرة وكبيرة، رغم أنها تهملها ولا تتواصل معها كما ينبغي، بل أنها تلومها على الجلوس أمام التليفزيون الذي يكسر وحدتها، ويصل الأمر إلى ذروته بتقليد الأبنة الأم كذلك في تعاطي المهدئات، ما يجعل الأم تثور وتمنعها.
وينتهي الفيلم بنهاية مفتوحة دون ثرثرة أو استطراد، لأنها الرسالة قد وصلت للأم،
حيث كانت اللعبة ليست إلا وضعها أمام مرآة ذاتها، ومواجهتها بالحقيقة التى تنكرها، لترى كيف وصلت إلى وضع مؤلم، قد يقودها إلى الإدمان، إلى جانب إهمال طفلتها الوحيدة، التى كان بالإمكان أن تكون مصدر سعادتها، بدلا من الإستمرار في تجربة حب فاشل ومعاناة نفسية.
وكانت المخرجة موفقة في هذه النهاية المفتوحة، لأن الانسان بعد أن يصل إلى ادراك أزمته، يجد نفسه في حيرة وأمام مفترق طرق.. هل يستمر في الطريق الذي سار فيه أم يذهب في الاتجاه المعاكس وهو ما يحتاج إلى بعض الوقت ليحسم أمره.
وأحسنت كذلك في اختيار بطلتيها الصغيرة والكبيرة، اللتين جسدتا الحالة بتمكن ومعايشة مقنعة للحظات الدرامية، دون مبالغة في الانفعالات، وعلى نحو أقرب للطبيعية.
وإن كانت البطلة الكبيرة ليلي سامي تفوقت في الاداء التمثيلي في هذا الفيلم، فإنها تفوقت كذلك كمخرجة في فيلمها "صولو" الذي يتميز بإيقاعه اللاهث، نتيجة حركة الكاميرا السريعة، والتقطيع المتواصل للقطات المتنوعة، رغم وجود ممثلة واحدة، وداخل مساحة مكانية محدودة بشقة، لأغراض درامية تجسد فكرتها الأقرب الى المونودراما المسرحية، حيث الصراع الداخلي الذي يدور داخل هذه الشخصية المأزومة التى تعاني الرهاب الاجتماعي، والخوف المرضي الذي يقارب فوبيا مواجهة الآخرين، والنزول للشارع الذي صار يحاصر بالأصولية والنفاق والأنانية والأنتهازية والعنف الواسع، حتى عندما تستهلك الشيكولاتة التى بحوزتها مصدر سعادتها وإدمانها ومخفف ألمها النفسي، ولا تجد اي قطعة أخري، لا تجرؤ أن تخرج من باب بيتها، ويصل بها الاكتئاب مداه فتنتحر في هدوء لتتخلص من ضجيج العالم من حولها، وصراعاته التي لا تنتهي، والتى لم تقوى كفنانة مرهفة الحس على تحملها.
ويبدو من تتر النهاية والعبارة التى كتبتها على الشاشة أنها قصة واقعية حدثت لصديق لها، لكنها جسدتها بحساسية خاصة، وبصوت مهموس غير زعاق، اذ أكتفت بجعل الصوت خارج الكادر، لتقربنا من فكرة الصراع الداخلي، وأن كانت تغلبت على ضيق المساحة المكانية، بجعل البطلة في حالة حركة دائمة من النظر الى الشارع من البلكونة أو الجلوس في غرفة المعيشة وممارسة الرسم، أو الانتقال للمطبخ والبحث بعصبية عن الشيكولاتة، أو الحمام حيث الانتحار، فإنها لو لجأت الى لقطات من الشارع تترافق مع حديثها عن المتناقضات الذي يعج بها، لكانت عمقت عملها أكثر وجعلته أكثر ثراء وتنوعا بصريا.
ونأتي إلى فيلم"الشاطر عمرو" للمخرج أحمد الغنيمي، الذي لم يبتعد كثيرا عن هذا العالم ولا تقنية الصوت خارج الكادر، لكن بطله هنا الذي هو الراوي في نفس الوقت غير منظور، فيما البطل الآخر طفل صغير نجده محاصرا بالأوامر والنواهي طول الوقت منذ لحظة استيقاظه إلى ذهابه للنوم وهو يأكل أو يذاكر أو حتى يلعب، لا يكف صوت الرجل الكبير الذي لا ندرى هل هوالأب بسلطته القمعية أم صوت المجتمع أو قوة أخرى عليا تحاصره وتقهره ولا تترك له حرية الإختيار.
وعندما يبلغ الكبت بالطفل مبلغه ويفكر في كسر القيد والهروب، يعجز عن إتخاذ قرار الهروب، بل إن ذهنه يتشتت ويفكر في الهروب بالقفز من فوق السور رغم أن باب البيت مفتوحا على مصراعيه، ولا يستطع الفكاك من هذا الحصار إلا بعد أن يقتل الأب أو هذه السلطة القمعية بمسدسه "اللعبة"، لكن قتل الأب ليس على"النمط الأوديبي" حيث بداية أزمة أوديب ومعاناته، وأنما بداية التحرر وإدراك قيمة الحرية حيث الشارع الواسع المزدحم بإشياء تبدو مبهجة ومضيئة مقارنة بداخل البيت الأشبه بالسجن المظلم.
وقيمة هذا الفيلم في رمزيته، وتعدد مستوى قراءته، وفي رسالته التى تحذر من القمع الذي يشل الفكر، إن لم يقد للإنفجار، وفي لفت النظر إلى أن "الشاطر" أو الطفل المتميز ليس ذاك الذي يستمع للأوامر والنواهي دون تفكير أو اقتناع، وأنما من يتمتع بحرية، ولديه القدرة على الاختيار وتحمل المسئولية.
أما فيلم "العودة" للمخرج أبو بكر شوقي، فاللافت فيه، هو حالة المفارقة، و كسر الإيهام في اللحظة الأخيرة بعد أن أقنعك بأن بطله قد نجا من الإعدام، نتيجة انقطاع الحبل وقرار إدارة السجن تركه يعود للحياة من جديد ليصلح من نفسه ويكفر عن أخطائه، ويعاود الإهتمام بأسرته والاجتهاد في عمله الذي كان اهملهما، نجد المخرج فجأة يعود بنا إلى غرفة الاعدام ليخبرنا أننا تعرضنا لخدعة فنية فيها من التشويق والاثارة ما يجعلك تسامحه على إيهامك وتتعاطف مع بطله الذي حلم حلمه الأخير بالخلاص لكن فات أوان التوبة وحان وقت العقاب.
ويبدو فيلم "امسك حرامي" للمخرج محمد كمال الحفناوي متميزا بمعالجته الساخرة لقضية الخيانة الزوجية، إذ أن الزوجة الشابة عندما يتكرر إهمال زوجها ولا يبالي بنداءات جسدها الجائع، تهب نفسها لأول قادم حتى لو كان لصا يقتحم بيتها بالصدفة فتعامله كما لو كان عريسا ليلة العرس وتغدق عليه ما لذ وطاب عقابا لزوجها الذي تصور أنه امتلكها وتركها بالبيت مثل أثاثه وأنه سيذهب ويعود ليجدها كما هي وكأنها ليست انسان لها مشاعر واحتياجات.
اما فيلم "احمر باهت" للمخرج محمد حماد، فيبدو جيدا على المستوى الفني إذ يتسم بايقاعه السريع والتنوع بين المشاهد الداخلية والخارجية الطبيعية، فضلا عن حواره المكثف غير المترهل وإفساح مساحة اكبر للصورة ولحظات الصمت الدالة، إلا أنه فكرته هذه المرة أقل جرأة مما طرحه من قبل، وأن أقترب من منطقة قريبة من منطقته التى تستهويه، ألا وهي كسر التابو الجنسي وكشف النفاق المجتمعي والحصار غير المبرر.
فهذه المرة يعالج قضية تجاوزها المجتمع الذي صار منفتحا بدرجة كبيرة ، خاصة بين الأجيال الجديدة التي لم تعد تشعر بالخجل والارتباك وهي تنتقل من الطفولة إلى النضج وتتعاطى مع حاجيات النساء الخاصة كالملابس الداخلية أو مزيلات الشعر التى صارت أمرا عاديا لا يستوجب النظرة السلبية للمجتمع مثلما كان في الماضي، حيث هذه الامور فحسب للبالغات وليس للمراهقات.
غير أن المعنى المهم الذي تتوقف عنده، يتمثل فى انشغالنا بالآخر أكثر من انفسنا ووضعه في حساباتنا الخاصة جدا رغم أن الأمر لا يعنيه، وإهتمامنا بما سيقوله الآخر عنا وصورتنا عنده، ما يعكس غياب الثقة في النفس وحرية الاختيار والاستماع إلى صوت المجتمع في كل صغيرة وكبيرة والانصياع لأفكاره وتقاليده، حتى لو كانت عقيمة ومتشددة ولا معنى لها وتحد من الحرية الشخصية